فصل: من لطائف وفوائد المفسرين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



لكن هذه الحقيقة التكوينية أعنى كون الإنسان في حياته سائرا في مسير نفسه لا يسعه التخطي عنها ولو بخطوة، ولا تركها والخروج منها ولو لحظة، لا يتساوى حال من تنبه له وتذكر به تذكرا لازما لا يتطرق إليه نسيان، وحال من غفل عنه ونسى الواقع الذي لا مفر له منه، وقد قال تعالى: {هل يستوى الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر اولوا الألباب} (الزمر: 9).
وقال تعالى: {فمن اتبع هداى فلا يضل ولا يشقى ومن أعرض عن ذكرى فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى قال ربى لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى} (طه: 126).
وذلك أن المتنبه إلى هذه الحقيقة حيثما يلتفت إلى حقيقة موقفه من ربه ونسبته إلى سائر أجزاء العالم وجد نفسه منقطعة عن غيره وقد كان يجدها على غير هذا النعت ومضروبا دونها الحجاب لا يمسها بالاحاطة والتأثير إلا ربها المدبر لامرها الذي يدفعها من ورائها ويجذبها إلى قدامها بقدرته وهدايته، ووجدها خالية بربها ليس لها من دونه من وال، وعند ذلك يفقه معنى قوله تعالى: {إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم تعملون} بعد قوله: {عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم} ومعنى قوله تعالى: {أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشى به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها} (الأنعام: 122).
وعند ذلك يتبدل إدراك النفس وشعورها، ويهاجر من موطن الشرك إلى موقف العبودية ومقام التوحيد، ولا يزال يعوض شركا من توحيد وتوهما من تحقق وبعدا من قرب واستكبارا شيطانيا من تواضع رحماني واستغناء وهميا من فقر عبودي إن أخذت بيدها العناية الإلهية وساقها سائق التوفيق.
ونحن وإن كان لا يسعنا أن نفقه هذه المعاني حق الفقه لمكان إخلادنا إلى الأرض واشتغالنا عن الغوص في أغوار هذه الحقائق التي يكشف عنها الدين ويشير إليها الكتاب الإلهى بما لا يعنينا من فضولات هذه الحياة الفانية التي لا يعرفها الكلام الإلهى في بيانه إلا بأنها لعب ولهو كما قال تعالى: {وما الحياة الدنيا إلا لعب ولهو} (الأنعام: 32) وقال تعالى: {ذلك مبلغهم من العلم} (النجم: 30).
إلا أن الاعتبار الصحيح والبحث البالغ والتدبر الوافى يوصلنا إلى التصديق بكلياتها إجمالا وإن قصرنا عن إحصاء التفاصيل والله الهادى.
ولعلنا خرجنا عن طور الاختصار فلنرجع إلى أول الكلام فنقول: وتسع الآية أن تحمل على الخطاب الاجتماعي بأن يكون المخاطب بقوله: {يا أيها الذين آمنوا} مجتمع المؤمنين فيكون المراد بقوله: {عليكم أنفسكم} هو إصلاح المؤمنين مجتمعهم الاسلامي باتخاذ صفة الاهتداء بالهداية الإلهية بأن يحتفظوا على معارفهم الدينية والاعمال الصالحة والشعائر الإسلامية العامة كما قال تعالى: {واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا} (آل عمران: 103) وقد تقدم في تفسيره أن المراد بهذا الاعتصام الاجتماعي الاخذ بالكتاب والسنة.
ويكون قوله: {لا يضركم من ضل إذا اهتديتم} يراد به أنهم في أمن من أضرار المجتمعات الضالة غير الإسلامية فليس من الواجب على المسلمين أن يبالغوا الجد في انتشار الإسلام بين الطوائف غير المسلمة أزيد من الدعوة المتعارفة كما تقدم.
أو أنه لا يجوز لهم أن ينسلوا مما بأيديهم من الهدى من مشاهدة ما عليه المجتمعات الضالة من الانهماك في الشهوات والتمتع من مزايا العيش الباطلة فإن الجميع مرجعهم إلى الله فينبئهم بما كانوا يعملون، وتجرى الآية على هذا مجرى قوله تعالى: {لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد متاع قليل ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد} (آل عمران: 197)، وقوله: {ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم زهرة الحياة الدنيا} (طه: 131).
وهنا معنى آخر لقوله: {لا يضركم من ضل إذا اهتديتم} من جهة أن المنفى في الآية هو الاضرار المنسوب إلى نفس الضالين دون شيء معين من صفاتهم أو أعمالهم فتفيد الإطلاق، ويكون المعنى نفى أن يكون الكفار ضارين للمجتمع الاسلامي بتبديله مجتمعا غير إسلامى بقوة قهرية فتكون الآية مسوقة سوق قوله تعالى: {اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم واخشون} (المائدة: 3)، وقوله: {لن يضروكم إلا أذى وإن يقاتلوكم يولوكم الادبار} (آل عمران: 111).
وقد ذكر جمع من مفسري السلف أن مفاد الآية هو الترخيص في ترك الدعوة الدينية والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، وذكروا أن الآية خاصة تختص بزمان أو حال لا يوجد فيه شرط الدعوة والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، وهو الامن من الضرر وقد رووا في ذلك روايات ستأتي الإشارة إليها في البحث الروائي الاتى.
ولازم هذا المعنى أن يكون قوله: {لا يضركم من ضل إذا اهتديتم} كناية عن انتفاء التكليف أي لا تكليف عليكم في ذلك وإلا فتضرر المجتمع الدينى من شيوع الضلال من كفر أو فسق مما لا يرتاب فيه ذو ريب.
لكن ذلك معنى بعيد لا يحتمله سياق الآية فإن الآية لو أخذت مخصصة لعمومات وجوب الدعوة والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر فلسانها ليس لسان التخصيص، وإن أخذت ناسخة فآيات الدعوة والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر آبية من النسخ، وللكلام تتمة ستوافيك.

.بحث روائي في الغرر والدرر للآمدي:

عن على عليه السلام قال: من عرف نفسه عرف ربه.
اقول: ورواه الفريقان عن النبي أيضا، وهو حديث مشهور، وقد ذكر بعض العلماء: أنه من تعليق المحال، ومفاده استحالة معرفة النفس لاستحالة الإحاطة العلمية بالله سبحانه، ورد أولا بقوله صلى الله عليه وآله وسلم في رواية أخرى: أعرفكم بنفسه أعرفكم بربه، وثانيا بأن الحديث في معنى عكس النقيض لقوله تعالى: {ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم}.
وفيه عنه عليه السلام: قال: الكيس من عرف نفسه وأخلص أعماله.
أقول: تقدم في البيان السابق معنى ارتباط الإخلاص وتفرعه على الاشتغال بمعرفة النفس.
وفيه عنه عليه السلام: قال: المعرفة بالنفس أنفع المعرفتين.
اقول: الظاهر أن المراد بالمعرفتين المعرفة بالآيات الانفسية والمعرفة بالآيات الافاقية، قال تعالى: {سنريهم آياتنا في الافاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أو لم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد} حم السجدة: 53 وقال تعالى: {وفي الأرض آيات للموقنين وفي أنفسكم أفلا تبصرون} (الذاريات: 21).
وكون السير الا نفسي أنفع من السير الآفاقى لعله لكون المعرفة النفسانية لا تنفك عادة من إصلاح أوصافها وأعمالها بخلاف المعرفة الافاقية، وذلك أن كون معرفة الآيات نافعة إنما هو لأن معرفة الآيات بما هي آيات موصلة إلى معرفة الله سبحانه وأسمائه وصفاته وأفعاله ككونه تعالى حيا لا يعرضه موت، وقادرا لا يشوبه عجز، وعالما لا يخالطه جهل، وأنه تعالى هو الخالق لكل شئ، والمالك لكل شئ، والرب القائم على كل نفس بما كسبت، خلق الخلق لا لحاجة منه إليهم بل لينعم عليهم بما استحقوه ثم يجمعهم ليوم الجمع لا ريب فيه ليجزى الذين أساؤوا بما عملوا ويجزى الذين أحسنوا بالحسنى.
وهذه وأمثالها معارف حقة إذا تناولها الإنسان وأتقنها مثلت له حقيقة حياته، وأنها حياة مؤبدة ذات سعادة دائمة أو شقوة لازمة، وليست بتلك المتهوسة المنقطعة اللاهية اللاغية، وهذا موقف علمي يهدى الإنسان إلى تكاليف ووظائف بالنسبة إلى ربه وبالنسبة إلى أبناء نوعه في الحياة الدنيا والحياة الاخرة، وهى التي نسميها بالدين، فإن السنة التي يلتزمها الإنسان في حياته، ولا يخلو عنها حتى البدوى والهمجى إنما يضعها ويلتزمها أو يأخذها ويلتزمها لنفسه من حيث إنه يقدر لنفسه نوعا من الحياة أي نوع كان، ثم يعمل بما استحسنه من السنة لإسعاد تلك الحياة، وهذا من الوضوح بمكان.
فالحياة التي يقدرها الإنسان لنفسه تمثل له الحوائج المناسبة لها فيهتدى بها إلى الأعمال التي تضمن عادة رفع تلك الحوائج فيطبق الإنسان عمله عليها وهو السنة أو الدين.
فتخلص مما ذكرنا أن النظر في الآيات الانفسية والافاقية ومعرفة الله سبحانه بها يهدى الإنسان إلى التمسك بالدين الحق والشريعة الإلهية من جهة تمثيل المعرفة المذكورة الحياة الإنسانية المؤبدة له عند ذلك، وتعلقها بالتوحيد والمعاد والنبوة.
وهذه هداية إلى الإيمان والتقوى يشترك فيها الطريقان معا أعنى طريقي النظر إلى الافاق والانفس فهما نافعان جميعا غير أن النظر إلى آيات النفس أنفع فإنه لا يخلو من العثور على ذات النفس وقواها وأدواتها الروحية والبدنية وما يعرضها من الاعتدال في أمرها أو طغيانها أو خمودها والملكات الفاضلة أو الرذيلة، والأحوال الحسنة أو السيئة التي تقارنها.
واشتغال الإنسان بمعرفة هذه الإمور والإذعان بما يلزمها من أمن أو خطر وسعادة أو شقاوة لا ينفك من أن يعرفه الداء والدواء من موقف قريب فيشتغل بإصلاح الفاسد منها، والالتزام بصحيحها بخلاف النظر في الآيات الافاقية فإنه وإن دعا إلى إصلاح النفس وتطهيرها من سفاسف الاخلاق ورذائلها، وتحليتها بالفضائل الروحية لكنه ينادى لذلك من مكان بعيد، وهو ظاهر.
وللرواية معنى آخر أدق مستخرج من نتائج الأبحاث الحقيقية في علم النفس وهو أن النظر في الآيات الآفاقية والمعرفة الحاصلة من ذلك نظر فكرى وعلم حصولي بخلاف النظر في النفس وقواها وأطوار وجودها والمعرفة المتجلية منها فإنه نظر شهودي وعلم حضوري، والتصديق الفكري يحتاج في تحققه إلى نظم الأقيسة واستعمال البرهان، وهو باق ما دام الإنسان متوجها إلى مقدماته غير ذاهل عنها ولا مشتغل بغيرها، ولذلك يزول العلم بزوال الإشراف على دليله وتكثر فيه الشبهات ويثور فيه الاختلاف.
وهذا بخلاف العلم النفساني بالنفس وقواها وأطوار وجودها فإنه من العيان فإذا اشتغل الإنسان بالنظر إلى آيات نفسه، وشاهد فقرها إلى ربها، وحاجتها في جميع أطوار وجودها، وجد أمرا عجيبا، وجد نفسه متعلقة بالعظمة والكبرياء متصلة في وجودها وحياتها وعلمها وقدرتها وسمعها وبصرها وإرادتها وحبها وسائر صفاتها وأفعالها بما لا يتناهى بهاء وسناء وجمالا وجلالا وكمالا من الوجود والحياة والعلم والقدرة، وغيرها من كل كمال.
وشاهد ما تقدم بيانه أن النفس الإنسانية لا شأن لها إلا في نفسها، ولا مخرج لها من نفسها، ولا شغل لها إلا السير الاضطراري في مسير نفسها، وأنها منقطعة عن كل شيء كانت تظن أنها مجتمعة معه مختلطة به إلا ربها المحيط بباطنها وظاهرها وكل شيء دونها فوجدت أنها دائما في خلا مع ربها وإن كانت في ملا من الناس.
وعند ذلك تنصرف عن كل شيء وتتوجه إلى ربها وتنسى كل شيء وتذكر ربها فلا يحجبه عنها حجاب ولا تستتر عنه بستر وهو حق المعرفة الذي قدر لانسان.
وهذه المعرفة الأحرى بها أن تسمى بمعرفة الله بالله، وأما المعرفة الفكرية التي يفيدها النظر في الآيات الافاقية سواء حصلت من قياس أو حدس أو غير ذلك فإنما هي معرفة بصورة ذهنية عن صورة ذهنية، وجل الاله أن يحيط به ذهن أو تساوى ذاته صورة مختلقة اختلقها خلق من خلقه، ولا يحيطون به علما. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.من لطائف القشيري في الآية:

قال عليه الرحمة:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105)}.
يكفي للفقير أن يمشيَ وقد جُبِرَ بعضُ كَسْرِه، فأمَّا إذا ادَّعى التقدم أو الطمع في إنجادِ منْ سواه فمحال من الحدث والظن.
ويقال من يفرغ إلى غيره يتشاغل عن نفسه، ومن اشتغل بنفسه لم يتفرَّغ إلى غيره. اهـ.